الشخصية التونسية في أدب التسعينات

Publié le par hamselhorria.over-blog.com

 

الشخصية التونسية

في أدب التسعينات          " فريد خدومة"

 

مدخل عام:

عالم الأدب ذاك العالم المتعدد المتشعب السهل الممتنع الذي سمح للجميع أن يلجوه و لكنه لم يسمح إلا لقلة بالخلود.

عالم الأدب ذاك الملتصق الدائم بالفرد و بحياته و بهمومه و طموحاته قد شارك ذاك البائس أو السعيد همومه أو فرحه و لكن على طريقته الخاصة.

قد دخل الأدب بتراكماته الزمانية و الانتاجية كل ثقافة و حضارة و كل وطن و أسهم إلى حد بعيد في دعم العلوم و المعارف و صناعة القرار في مختلف البلدان و لكنه ظل أدبا حبرا على ورق أو ألفاظ تتناقلها الشفاه أو يتغنى بها أصحاب الأصوات الرديئة و الشجية ، بما أن بحثنا فن الشخصية التونسية المعاصرة و ما عانت من ويلات قد قادتنا إلى هذا العالم المتخيل شديد الالتصاق باليومي فلا بد إذا من:

إلقاء نظرة حول الشخصية في الأدب : عرض تاريخ الأدب المعاصر في تونس و بالأساس الرواية.

قراءة الشخصية التونسية من خلال أدب التسعينات.

الشخصية في الأدب:

لا شك بأننا بتطرقنا للشخصية التونسية من خلال الأدب نحاول المرة قراءة التونسي من خلال ما يرسمه التونسي عن نفسه و ما يراه حوله و فيه وو كيف يتصور مآسيه و أحلامه و كيف يمكن له أن يعبر من داخل الأزمة عن الأزمة.

أما الشخصية في الأدب فهي عالم معقد شديد التركيب و شديد الغموض. عالم متعدد تعدد الكتاب و غامض غموض ما يعتنقون و خيالي خصب أذهانهم ورؤاهم و لكن الشخصية في خاتمة الأمر التونسي اللحم و الدم حتى و إن اعتقدنا أن الأدب عبث و لكن الأديب لا يعبث لأنه يحترق لحما و دما لخلق تلك الشخصية المقنعة الكاذبة و الصادقة و الحالمة و الواقعية مهما كانت تلك الشخصية فهي الأنا و الأنت و النحن.

حول بالزاك أن يجعل من رواياته مرآة تعكس كل طبائع الناس الذين يشكلون المجتمع الذي يكتب له و عنه في الوقت ذاته بما كان فيهم من عيوب و بما كان فيهم من عواطف و بما كان في قلوبهم من أحقاد و بما كان في نفوسهم من شرور و بما كانوا يكابدونه من آلام و أهوال في حياتهم اليومية التي كانت و لم تبرح تفرض وجود كثير من العلاقات. (1)

إذن فتلك الشخصيات ليست في حقيقة الأمر إلا صور طبق الأصل لشخصيات واقعية حاول الكاتب أن يحدثنا عنها لإحساسه بآلامها و إيمانه بآلامها و ربما لأنها فرضت عليه أن يحييها في عالمه الخاص به.

إن الشخصية في الأدب من صنع الأديب لا محالة و لكنها فرضت عليه أيضا الحياة بما انه شاهد على آلامها و آمالها فهو مخير في إيجادها و مجبر على تتبع آثارها و ربما لا يختار نهايات أحداثها.

ربما كان يأمل الأديب أن ينهي مأساة شخصيته و لكن سير الأحداث رحل بشخصيته إلى حيث لا يشتهي و تراه غن مال إلى شخصيته تعسف على الأحداث و كسر عنق الرواية فتراه يسقط في الفوضى و التحيز الأعمى كمن يعيد للأعمى بصره لأنه أحس بألمه الشديد غداة فقدان نور الحياة و كمن صنع من غصن شجرة ساقا لبطله الذي قطع القطار ساقه.

الشخصية بين الحداثة و الأصالة:

إن الشخصية كانت بارزة إلى حد بعيد الرواية التقليدية و ذلك لأن الرواية الحديثة حاولت تهميش الشخصية و اعتبارها عنصرا عاديا ليس أهم من السرد و الحبكة و الزمان و الحيز و الحدث و اللغة و على ذلك فقد ذهب البعض إلى إطلاق حرف أو عدد على شخصيته إيهاما لنا بأنها لا تمثل له شيئا و لكن في حقيقة الأمر كانت تلك الشخصية (س) أو (7) محور العمل الأدبي جملة و تفصيلا و عليها يدور رحى العمل سردا و وصفا و حبكة و أحداثا و لكن أرى أن الرواية التقليدية انتصرت أن نبتت أمام ما يطلق عليه الرواية المعاصرة و هي شكل يحاول أن يوجد على حساب الرواية التقليدية و في حقيقة الأمر يحاول أن يعيش بالعبث بمفهوم الشخصية لا أكثر و لا أقل و لكن ما زلنا نرى أن أحدث الأعمال الروائية إلى يوم الناس هذا ما زالت تعتبر الشخصية نقطة مركزية في العمل الروائي.

إن الشخصية من منظور النقد الروائي التقليدي و الكتابة الروائية التقليدية معا كائنا حيا مسجلا في الحالة المدنية يولد فيعيش فيموت(2) إذن فالشخصيات كانوا يوما ما أحياء بشكل ما و في زمان ما و مكان ما و بحلم ما و بآلام ما و عليه فلا بد إذن من الاهتمام بالأدب التونسي المنتج في التسعينات باعتبار أننا اتفقنا على كون التسعينات مرحلة مفصلية في تاريخ الشخصية التونسية و لكن قبل ذلك لا بد من الإلماح إلى الملحوظة التالية كي نستطيع تتبع نسق البحث دون السقوط في الغموض.

شخصيات لا أشخاصا:  

سنحاول في هذا الفصل الصغير أن نبين الفرق بين '' شخص '' و '' شخصية '' و ذلك لسقوط كثير من النقاد العرب كما يقول الدكتور عبد الملك مرتاض في الخلط بين شخص و شخصية فالمشكلة إذن اصطلاحية و لكن آثارها ابعد من ذلك بكثير لتعدي معاني المصطلح غلى الموضوع الذي يتناوله، يرى الدكتور عبد الملك مرتاض أن المسألة محسومة في اللغات الغربية إن أن قولهم Personnage إنما هو تمثيل و إبراز و عكس و إظهار لطبيعة القيمة الحية العاقلة الماثلة في قولهم الآخر Personne بينما في اللغة العربية معرضة لبعض الاضطراب لأننا لو مضينا على تمثل الدلالة الغربية و فلسفة الاشتقاق في اللغة الفرنسية خصوصا لكان المصطلح هو '' شخصنه '' لا شخصية و ذلك على أساس أن الشخصنة مصدر متعد يدل على تمثيل حالة بنقلها من صورة إلى صورة أخرى(3) أما المنطق الدلالي للغة العربية الشائعة بين الناس يقتضي أن يكون الشخص هو الفرد المسجل في البلدية و الذي له حالة مدنية و الذي يولد فعلا و يموت حقا بينما إطلاق الشخصية لا يخلو من عمومية المعنى في اللغة العربية و عليه سنشتغل في هذه الدراسة على شخصيات متعددة و هي جمع لشخصية و لن نتعامل مع أشخاص جمع لشخص.

في الشخصية الأدبية:     

إن الشخصية هي قطب الرحى في العمل في العمل الإبداعي و هي التي تجمع حولها كل المكونات الأخرى و بدونها يفقد العمل الروائي روحه أو يمكن أن يسقط من الرواية إلى المقالة أو يرتفع إلى مناجاة شعرية أو يصبح شيئا آخر و لكن ليس عملا روائيا.

 إنها هي التي تصطنع اللغة و هي التي بثت أو تستقبل الحوار و هي التي تصف معظم المناظر و هي التي تتمتع بالخير و ترزح تحت نير الشرور و هي التي تنجز الحدث و هي التي تقوم بتضريم الصراع و تنشيطه فهي الإبداع و لكن مع وجود بقية المتممات أو لنقل الركائز.

إن الشخصية هي التي ميزت العمل القصصي أو الروائي عن باقي الأجناس الأدبية و قد صنعت لها تاريخا حيا مليئا بالأطوار حتى نراها اليوم متألقة متوهجة.

تاريخ الشخصية في الأدب العالمي:

لقد مرت الشخصية بثلاثة مراحل مهمة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن و لا يمكن أن نلتزم بالتاريخ المرحلي لنعتبر أن ما وصلت إليه أفضل مما انطلقت منه و ذلك لأن التجديد ليس دائما أفضل من القديم فربما يتميز عنه و ربما يجانبه و ربما يسير إلى جانبه و لا يلغيه.

المرحلة الأولى:

و هي تمثل مستوى التوهج و العنفوان و ترتبط بازدهارها الرواية التاريخية و الرواية الاجتماعية وخصوصا و لعل أكبر من روج لهذه الشخصية و صرفها مصارف لا حدود لها الكاتب الفرنسي بالزاك الذي كتب زهاء التسعين رواية نشط نصوصها أكثر من ألفي شخصية و ماشاه على ذلك جملة من الكتاب في الأدب الفرنسي نفسه مثل هكتور مالو و أميل زولا و غوستاف فلوبار ، و في الأدب الأنقليزي كافكا و في الأدب العربي نجيب محفوظ.

المرحلة الثانية:

ابتدأت مع نهاية الحرب العالمية الأولى فقد ألم بالرواية العالمية عهد الاهتزاز و التشكيك.( وثق النقل مع الإشارة إلى الرجوع إلى الكتاب لإتمام التاريخ ...لا يسمح هنا للضيق و الاختصار)

تاريخ الرواية المعاصر في تونس:

أ‌)       الرواية الأولى:

كان ظهور أول رواية في تونس سنة 1906 م وهي رواية "الهيفاء وسراج الليل" لصاحبها صالح السويسي القيرواني الذي بدأ نشرها تباعا بمجلة خير الدين وقد أعادت نشرها إحدى دور النشر بتونس في الثمانينات من القرن المنصرم وقد عارض الدكتور سيد حامد النساج هذا الرأي بقوله "ويخطئ من يظن أن الراية العربية في تونس صدرت قبل 1935 وعلى غير بد علي الدوعاجي القصة التونسية الحديثة بلا منازع" وقد عارض هذا القفول الدكتور أبو ريان السعيدي في كتابه من أدب الرواية في تونس[1] مستندا إلى ما استقر عليه البحث عند كل الدارسين التونسيين وفي مقدمتهم الكاتب العلامة محمد الفاضل بن عاشور[2] وقد كانت حجة الدكتور السراج في ذلك أن هذه الرواية "محاولة في الكتابة فقط لا ترتقي إلى مستوى المقال الأدبي     ناهيك عن القصة القصيرة وهي أبعد ما تكون عن الرواية ولو في بدايتها الساذجة الفاشلة غير الفنية"[3] والدكتور يعتبر "جولة بين حانات البحر الأبيض المتوسط " لعلي الدوعاجي أول عمل روائي في تونس غير أن الدكتور أبو زيان السعيدي يرى أن هذه "الجولة" ليست رواية أو قصة ولم يصنفها أحد من الدارسين في هذا الباب حتى كاتبها نفسه وإنما هي "ريبورتاج" صحفي لعدد من الأماكن الساحية الأوروبية.

ب‌)   تاريخ الرواية في تونس "نموذجيا":

يمكن عرض الإبداعات الروائية التونسية من خلال تقسيمها إلى العديد من النماذج التي تنتمي إليها وذلك للجروج من العرض التاريخي الرتيب الذي يعتمد التاريخ فقط.

حد النمذجة la typologie: تفيد "النمذجة" علم الأصناف البشرية منظورا إليها من وجهة نظر العلائق بين الخصائص العضوية والذهنية كما تعني علم تكون الأنماط"types" التي يمكنها أن تسهل تحليل واقع مركب من وجهة نظر أخرى عمل التصنيف la classification [4] .

قسم الدكتور بوشوشة بوجمعة الرواية في تونس إلى حدود التسعينات إلى :

1)    الرواية الذهنية:

يعود ظهور هذا النموذج الروائي إلى قبيل العقد الرابع من القرن المنصرم مع الأديب محمود المسعدي الذي يعود إليه الفضل في بذر لقاح الرواية الذهنية في سنوات الحرب الثانية وقد برز في هذا النموذج الروائي كل من مصطفى الفارسي في '' حركات '' 1978 و هشام القروي في نصّيه '' ن '' 1983 و '' أعمدة الجنون السبعة '' 1985 و فرج الحوار في '' النفير و القيامة '' 1985 و صلاح الدين بوجاه في '' مدونة الاعترافات و الأسرار '' 1985.

ب/ الرواية الوطنية:

و هي تؤرخ للمسيرة النضالية إبان الاستعمار الفرنسي أو تصنع أحداثا مستغلة الإطار التاريخي لعرضها فيه مستفيدة من الذاكرة الجماعية و الفردية لتلك الحقبة المريرة.

يمثل هذا النموذج كل من محمد العروسي المطوي في '' و من الضحايا '' 1996 و '' حليمة '' 1967 و '' التوت المر '' 1967 و سالم السويسي في'' يوميات  بطل '' 1967 و محمد صالح الجابري في '' يوم من أيام زمرا '' 1968 و عبد الرحمان عمار في '' حب و ثورة '' 1969 و عبد القادر بالحاج نصر في '' الزيتون لا يموت '' 1969 و محمد المختار جنات في '' أرجوان '' 1970 و في '' خيوط الشك ''  1972 و في '' نوافذ الزمن '' 1974 و محمد الصحبي الحاجي في الثائر 1970 و الحبيب بن سالم في '' وناس '' 1973 و محمد بن عاشور في '' البحث عن الأوراق '' 1974 و '' حب في المدينة العتيقة '' 1980.

ت/ رواية السيرة الذاتية:

لا يمكن اعتبار رواية السيرة الذالتية تجربة فردية فحسب و لكنها أيضا تجسيد لواقع موضوعي تفاعلت معه ذات الكاتب ماضيا و تأثرت به حاضرا فصاغته إبداعا و تعود التشكلات الجينية الأولى لجنس الترجمة الذاتية إلى الطور الذي أخذت فيه المدونات تأخذ طابعا سرديا و تخضع لنسق يقربها من الشكل الروائي خاصة أنها كانت تروم '' إظهار الشخص لقيمة '' (9).

يمثل هذا النموذج كل من مصطفى الفارسي في '' المنعرج '' 1966 و عبد المجيد عطية في '' المنبت '' 1967 و عبد القادر بن الشيخ في '' نصيبي من الأفق '' 1970 و محمد الحبيب براهم في '' أنا و هي و الأرض '' 1977 و محمد العابد مزالي في '' على مرقص الأشباح '' 1978 و عبد القادر بالحاج نصر في '' صاحبة الجلالة '' 1981 و علي سعد الله في '' اعترافات مراهق '' 1981 و زكية عبد القادر في '' آمنة '' 1981 و محمد سعيد القطاري في '' غيبوبة الأ رض'' 1983 و جمال الدين بوريقة في '' نسيج العنكبوت '' 1984 و اسماعيل بوسروال في '' كلانا في وجه العاصفة '' 1984 و حياة بن الشيخ في '' كان عرس الهزيمة '' 1992 و محمد العروسي المطوي في '' رجع الصدى '' 1992 و آمال مختار في '' نخب الحياة '' 1993.

ث/ الرواية الاجتماعية :

 إن الرواية الاجتماعية تحلل واقع مجموعة من الشخصيات ذات انتماء طبقي متنوع أو موحد لكي تبرز التناقض بين معطيات وضعها و طموحاتها و بذلك تكون الرواية الاجتماعية نقدية في هدفها تحليلية في بنائها متنامية في تطور أحداثها واقعية في شخوصها و زمنها و فضائها (10).

يمثل هذا النموذج كل من البشير خريف في '' إفلاس أو حبك درباني '' (1959) و '' الدقلة في عراجينها '' (1969) و محمد صالح الجابري في '' البحر ينشر ألواحه '' و محمد الهادي بن صالح في '' بيت العنكبوت '' (1976) و حسن نصر في '' دهاليز الليل '' (1977) و عمر بن سالم في '' واحة بلا ظل '' (1978) و محمد الهادي بن صالح في '' الجسد و العصا '' (1980) و محمد الباردي في '' مدينة الشموس الدافئة '' (1981) و محمد الهادي بن صالح في '' الحركة و انتكاس الشمس '' (1982) و عمر بن سالم في '' دائرة الاختناق '' (1982) و محمد الباردي في '' الملاح و السفينة '' (1983) و عمر بن سالم في '' أبو جهل الدهاش '' (1984) و محمد الباردي في '' قمح افريقية '' (1985) و محمد الهادي بن صالح في '' الناس و الحجارة '' (1988) و عمر بن سالم في '' الأسد و التمثال '' (1989) و محمد الهادي بن صالح في '' كلب السبخة '' (1990) و '' من حقه أن يحلم '' و '' ألق التوبة '' و غيرها من النصوص الروائية.

أدب التسعينات:

أدب التسعينات متميز حقا تميز تلك المرحلة الحرجة لا من حيث الإبداع و التفوق و لكن من حيث الإرباك في رسم الشخصيات و طغيان الرمزية و العجائبية على كثير من الأعمال إنك تشعر أنك تقرأ أدبا متوترا يمكن أن يشعرك بالأزمة حتى في الفرح.

إنه أدب لا يطرح حلولا و هو يهرب إلى الأبعد في رسم الشخصيات و يحاول جاهدا ألا يتورط في رسم الأحداث ، لأن الكاتب ليس محايدا و لا متفرجا بل هو دائما جزء مما يكتب و هو يتألم مع الآلام التي يرسمها و يحاول الفرح مع الفرح الذي يرسمه على الوجوه.

الأديب في التسعينات أثرت فيه الأزمة كما أثرت في الأطباء و المهندسين و الإداريين و العاطلين عن العمل لأنه جزء منهم يأكل مما يأكلون و يشرب مما يشربون و هو ليس أفضل منهم حالا في أي شيء بل إنه يشعر بالأزمة أكثر منهم لأن مهنته الكلمة و الكلمة كانت مستهدفة في التسعينات بل مطلوب رأسها إذن فقد كان الأديب يشقى بشقاء الآخرين مرتين مرة كمشاهد فاحص و ناقد خبير بمواطن الألم و مرة أخرى لأنه محروم من نقل تلك الآلام و تسجيلها.

إنه كذلك سجين السائد العام خطأ كان أم صوابا '' فعقل الكاتب يتكيف في اختياره مع أنماط السلوك الايجابية و السلبية التي يبحث عنها و هذه الأنماط و إلى حد ما موقفه منها لا يقررها هو بقدر كونها مقررة له فالصالح و الطالح و التقليدي و غير التقليدي تبسيطات مشوهة لما هو كائن أو جاز فعلا و لذلك إذا كانت إحدى الشخصيات غير عادية فإنها بالنسبة إلى الكاتب يجب أن تكون غير عادية بدرجة قابلة للقياس و بإحدى الطرق العادية'' (11).

قد يعتقد البعض أن هذا الكم الهائل من الورق و الحبر مضيعة للوقت أو لنقل قد خلق للتسلية و لكنه ينسى أن العقل الذي أبدع ذلك عقل متألم يحاول جاهدا أن يقول شيئا يحاول أن يبلغنا فكرة أو رأيا ربما و ربما مجازيا إذا كان بينه و بين الواقعية أبواب موصدة و قلاع و حصون.

يلجأ الأديب إلى الرمزية من باب الحاجة و من باب الإبداع و الإبداع لا ينافي الحاجة و الحاجة لا تنافي الإبداع و كذلك يلجأ إلى العجائبية لكن المضمون واقعي إلى أبعد الحدود فنفس المشاكل التي يعيشها ذلك الغول هي عين المشاكل التي عاشها زيد أو عمرو و في نفس تلك المرحلة و لكن لا يسمح في تونس التسعينات بتسمية الأشياء بمسمياتها في الأدب و في غير الأدب.

الرواية لصيقة بالإنسان مهما بدت معالمها باهتة و شخصياتها قليلة الحركة و الطموح و الأحلام و قصتها تهويمات و خرافة فالرواية جزء من هذا الألم العام حاولت أن تنقل الواقع تماشيا مع الرفض للسائد العام الرفض المقنع أو الخجول أو الطامح للثورة دون ذكر للثورة في النص طبعا.

الرواية ليست فنا صرفا فلا بد لها من موضوع ذي صلة مهما تكن باهتة بالعالم الذي نعيش فيه و نعرفه بحواسنا و الموضوع لا بد من أن يعالج سلوك الناس الذين يتصرفون و يشعرون و يفكرون في الزمن و يخضعون لجميع تقلباته و تنوعاته و تغيراته و كل فرد في القصة كما هي الحال في الحياة يحمل على عاتقه نظامه الخاص للزمن بمعنى أوسع مما قصده آينشتاين (12).

لم نر في التسعينات مبدعين كما أنه لا يوجد في تونس '' الأدب '' عموما مبدعون و ذلك لأن الرواية مازالت نخبوية إلى أبعد الحدود و نحن نشهد أزمة نص و أزمة متلق كما صار يطرح الآن علنا.

أزمة نص من حيث التقنيات التي تشعرك بالانتكاسة و الردة و محاولة التجديد و لكن يرمى كل السالف في القمامة و إن كان السالف هو قاعدة البناء فقد شهدنا أخيرا بنية روائية بلا قواعد و أزمة متلق و ذلك لعزوفه عن المطالعة لعدة أسباب لعل أبرزها:

- عدم اهتمامه بالمطالعة من حيث المبدأ لدخول العديد من الوسائط المعرفية المنافسة للقراءة

- الترويج السيء و غلاء سعر الكتاب

- عدم اهتمام وزارة الثقافة بالكتاب لغاية معلومة و واضحة و قد نجحت في إبعاد العامة و جمهرة عظيمة من النخبة عن القراءة .

- جمود كثير من النصوص

- سقوط كثير من الكتاب في الرداءة رغم رصيدهم التاريخي الابداعي و ذلك لأنهم عرضوا أقلامهم للبيع ففقدوا الاحترام.

- جمود مؤسسة اتحاد الكتاب التونسيين الممثل الشرعي و الوحيد للكتاب المحترفين و سقوطه في الرداءة إدارة و إبداعا.

نماذج من أدباء الأزمة:

سنحاول مساءلة بعض الرواد من خلال شخصيات رواياتهم حتى نتأكد من صدق الملاحظات التي سبقت قبل و عندما نتأكد من كون تلك المرحلة كانت مرحلة الأزمة لا يعني البتة أننا أغفلنا البحث عن جوانب الإبداع فيما كتبوا فمن قال أن أدب الأزمة هو أدب الرداءة ألم تخرج السجون كثيرا من المبدعين ، إننا سنحاول قراءة الواقع من خلال الكتابة الأدبية آملين أن نضع أيدينا على المناطق الحساسة لاعتقادنا أن الأزمة طالت كل سن في تونس ما دامت قد طالت الشخصية التونسية، سنختار من هؤلاء الدرغوثي و محمود طرشونة.

الدرغوثي:

عندما تقرأ لإبراهيم الدرغوثي تدرك أن الرجل يريد أن يقول لكنه يفضل الكتابة في زمن لا يؤمن بالمواجهة.

التجأ الرجل القادم من رحم التراب الأسود و من شبق الموت اليومي تحت '' الداموس '' إلى الصدمة '' الوقحة '' المغلفة بعجائبية هوجاء تلقي بك في ظلال الشك و التساؤل ، '' هل يدرك الرجل ما يقول ؟''.

الرجل الأسمر بن التراب الأسود يرفض أن يقول كل شيء هل لأنه لا يدرك كل شيء و لكن هل يوجد في تونس مثقف لا يدرك كل شيء؟

يحاول الرجل أن يسمي الماء بغير اسمه لا جهلا و لا سفها لكننا ندرك و يدرك أننا ندرك و لكن هل ألجأ الإبداع إلى ذلك أم أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؟

في رواياته المتعددة يكاد الرجل أن يكون سياسيا بامتياز و لكنه يبرأ من لعنة السياسة و هو يلقي بالعته و السفه و الخرافة على شخصياته الحالمة المتألمة.

إن الرجل يحاول أن يستفزنا عن قصد ، و لكن هل حقا وعينا جيدا ما يريد؟

 عندما تضع شخصياته المخلوقة من طين الحرف أمامك و تسائلهم يصمتون و على غير العادة يفضلون العيش في عالمهم العجيب لأن الواقعية في تونس يجازى عليها بالمنع و التحجير و الحجز (13).

إن من المؤلم حقا و أنت تتابع التجارب شبه النقدية في تونس ترى أن النص النقدي عبارة عن تلخيص رديء للنص الروائي يفقده روحه و معناه تضاف إليه بعض الملاحظات و عليه فسنحاول قراءة لنص الدرغوثي بتجاوز النقد السردي إلى مساءلة الشخصيات بأسلوب جديد علنا نصل إلى ما نريد.

وراء السراب قليلا : (14)

في رواية وراء السراب قليلا تختلط الشخصيات بالأحداث في عالم غير متناسق عالم تسوده الخرافة في تركيبة الشخصية وصنع الحدث غير أن تلك الأرواح الحية و الأولياء الفاعلين و الأحداث الغريبة ترتبط ارتباطا وثيقا بالهم اليومي لابن المناجم في التسعينات ، فثورة العبيد توق جديد لتلك الذاكرة الشعبية الحية التي روت '' فرسان '' الباي الذي أمر بتحرير العبيد و إبطال الرق و لكن كيف لهذا الباي أن يمنحنا الحرية بفرمان ؟ سؤال يوجه إلى الدرغوثي فأشباحه و '' سودانه '' هم أولى بالثورة كي يفتكوا من الباي حريتهم و إلى متى يؤرق أبناء الفسفاط تلك الثروة التي ما نالوا منها إلا الموت و ضنك العيش ، يقول الهادي الغابري :'' تتجلى ملحمة القيد و الحرية في رواية وراء السراب قليلا من خلال فك قيد العبيد التونسيين و تمكينهم من حرياتهم تامة " قال عمي : ناديتك يا شيخ العبيد لأعلمك بفرمان الباي الذي يطلب فيه الأسيد تحرير عبيدهم و يمنع فيه تحت طائلة الحبس الرق و تمليك النفس البشرية لغير الله" و من العجب أن لا يقبل العبيد الفرمان التحرري فيرفضون الانعتاق و يتوقون إلى العبودية " لكن العبيد لم يبرحوا المكان و عادوا إلى اللغط و الهياج و صاح شيخهم قل لسيدك أن لا حاجة لنا بحريته و اطلب منه أن يسمح لنا بالعودة إلى أسيادنا'' (15).

في الحدث و شخصياته و هو جزء من الرواية التي تطرح العديد من المشاكل الأخرى لا يمكن التطرق إليها جميعا أبعاد متناقضة و ربما متناسقة ، هل الحرية ينتظرها العبيد كي توهب لهم ''بفرمان '' من الباي العظيم أم هي حق يسترد بالقوة ما دام قد أخذ بسلطة السيف و هل حقا أن الحرية التي يهبها الباي للعبيد سيكون مآلها الفشل للعديد من الاعتبارات لعل من بينها عدم أهلية العبد كي يكون حرا كما تقول بعض الأنظمة الديكتاتورية بأن شعوبها غير مؤهلة للديمقراطية و لا بد للتعامل معها بسياسة '' الديمقراطية قطرة قطرة '' بهذا الطرح الواقعي المفضوح نعاود التأكيد على ما أسلفنا تقديمه من كون العجائبية ليست بالضرورة نقيضا للواقعية بل هي شكل من الأشكال التي يسمح بها النص و شكل من الأشكال التي يسمح بها الواقع السياسي كذلك.

عندما ذكرنا سابقا أن شخصيات أدب التسعينات شخصيات تحتاج إلى عالم نفس لا إلى ناقد لم نكن مأساويين إلى أبعد الحدود و لكن كان هذا الألم حقيقة مرة نحاول جاهدين أن نجاهر بها علّ من يدركها يرشد الباقين إلى '' وثبة '' فأل و أمل.

1)    سعد الشوشان عند رجوعه إلى الصحراء و دخوله متاهة البحث عن أجداده تحت التراب استبدت به أحاسيس متناثرة و متداخلة.

- إنها غرابة الحقيقة الإنسانية عند صراع الذات مع الوجود العنيد و مخاتلة الموت للحياة و استدعاء الماضي للحاضر و محاولة استنطاق الجماد و البحث الدائم عن ابتسامة تمثال خشبي يفني صانعه قبله أو إخراج جثة و إركابها صهوة حصان يسابق الريح العاتية نحو الجنوب.

- إنه بلا شك جنون الوعي بالحاضر و استحضار اللاوعي الجميل في الماضي التليد (16).

2) الأم:

كيف يكون حضن الأم باردا أحيانا كالثلج و كيف لزوجة الأب المقتول أن تحب '' ربيبها '' و كأنه عشش داخل رحمها المهترىء (17).

3       ) السودان:

- يعانقون التراب الأسود معتقدين بأنه ذهب لكنهم يعيشون بذلك الجهل بينما يدرك الأجنبي حقيقة ذلك التراب.

        - الأجنبي سعيد بمعرفته و السودان يشعرون بجهلهم و لكن من يا ترى المالك الحقيق لهذه اللعنة '' الفسفاط ''؟ يلامس العجائبي في الرواية الخلقة و الأخلاق و ظاهر و باطن الشخوص لاستجلاء الحقائق عبر الوصف المكثف ليكون العجيب حيّا ناطقا بشيء بأن حالة غير طبيعية قد حدثت أو هي في طور الحدوث و قد جاء العجائبي في الرواية وفق كتابة سردية تكسر الحدود بين الأجناس الأدبية كما تكسر الزمن و تخلطه بين الماضي و الحاضر و المستقبل (18).

صلاح الدين بوجاه:

لعل صلاح الدين بوجاه كان الأكثر وعيا بالأزمة أو كان .الأكثر ملامسة لها أو لنقل حاول أن يذهب إلى الألم و يمسك به  أو يعظه حتى يصرخ هذا الوطن المريض ويعلن ألمه دون مواربة ففي روايته النخاس يقحم بوجاه صاحبه في أتون معركة لم تصنعها يداه فالرجل جال البلاد طولا وعرضا فلم يجد فيها ما يدعو للحياة لماذا إذا يبقى رهين الموت  .

إن النخاس محاصر بواقعه الأجوف  ومحاصر بأوروبا القريبة الطاغية في كل شىء حتى في الحرية

أما ما تحت الأرجل فمصانع بلا دخان  وحضارة في العقول كخيوط العنكبوت توهمك أنها بيت وهي ليست بيتا وإن سلمنا أنها بيت فهي بيت لعنكبوت .

النخاس ''كان قد جاب البلاد طولا وعرضا فعرف الطرق الكبرى و الدروب المتربة الخفية رأى الناس و الأشجار و العشب و المطر والوهم  وفهم أن هذه البقعة من الأرض تغير ثوبها و تولد نيرانها في مهد رمادها القديم نهاية هده الألف الثانية عجيبة فالمصانع قليل دخانها باهت لونها والأزمات جمة هائلة لكن الأمر قد بلغ الأوج أو كاد فالعيون أكثر ثباتا  والسواعد وترها التحدي إفريقيا هنالك في الجنوب وأروبا قريبة طاغية والتاريخ والحضارة بخيرهما و شرهما حاضران مادة أولى طبعة أو صلبة حسب الفصول والأوقات مادة أولى للحضارة والأمل والإخفاق و الموت و الحياة داخل حقل صغير حقل من الوهم والخبر والنشر إسمه تونس "(19) وكأني بالنخاس تونسي لحما و دما لا ورقا وحبرا فالرجل ينقل لنا تونس التسعينات  تونس الأزمة الثقافية  كما صورناها نحن في هذه الدراسة أو صورها كل دارس فاحص صادق إذا فالرجل ابن الأزمة الثقافية بامتياز ابن انسداد الأفق وابن وهم المعجزة الاقتصادية فالرجل ابن وهم الضفة الأخرى من المتوسط لأن أرض الأجداد ليست أرض مستقر ولكن هذه السفينة والرحلة إلى الضفة الأخرى بسبب أو بدون سبب  الحل مرة أخرى  يحاول أخذ الكتاب التونسيين

.أن يحيد بمسار الحدث ويبدع في رسم الواقع لكنه ينحرف بشخصيته فعوض أن يرفض النخاس الإغراء بالسفر و يبقى  في أتون هذه الأزمة  يبقى ليحاول النفخ في مواقد المصانع من جديد يبقى

ليساهم في الدفع بالأزمة إلى منتهاها حتى نقرب الفجر المرتقب القادم على مهل  نرى أن بوجاه يغمز إلى شخصيته بطرف خفي كي يرحل ويترك تونس يتركها لمن   أيتركها للعسس وجامعي القمامة .

إن الشخصيات الرئيسية في أدب التسعينات وبكل أسف كانوا مرتهنين عند صانعيهم ولم يتركوا لهم حرية التعبير عن الرفض ربما بسبب خوف الصانع  من البطش والإرهاب أو وهم البطش     أ وربما لإيمان المبدع ابن التسعينات ألا حل في الأفق ويكفيه المساهمة بالقول "أنه توجد هنا أزمة " .

ثم لماذا كان بطلك يا بوجاه نخاسا هل الحل في تونس لا يكون إلا على أيدي النخاسين أولائك الذين يبيعوننا صباحا و مساءا يوهم أننا لسنا أحرارا  أملأن النخاس مع الإتحاد السوفياتي أحمرا دمويا ويعد السقوط أمبرياليا  بامتياز هل بطلك حقا كان نخاسا أنا شخصيا مؤمن أن بطلك كان أقوى منك فلم يحاول أن يتاجر لا به ولا بنا  ولا بك أيضا أتعلم لماذا لأن نخاس بوجاه كان تونسيا بامتياز .

صحيح أن النحاسين في تونس كثر ولكن يجب أن لا نضيف إليهم فعل الوعي لأنهم كانوا يبيعوننا عبر التاريخ وفي الحاضر هم بيننا  نعرفهم و يعرفوننا ولا يستحون من فعالهم  فالله " أحل البيع و حرم

الربا " .حاول بوجاه أن يضع صانع النخاس في السفينة التي نرفضها من حيث المبدأ لأن الحل هنا وليس وراء البحار  وربما لا يكون الحل في السفينة دائما لأنها إن رمزت إلى السلام فربما ليس الحل دائما بالسلام  فربما تكون الثورة هي الحل وإن دلت السفينة  على طوفان نوحا فنحن لا نتمنى أن يعم بلدنا الطوفان لأن هذه الأم تونس أرحم من أن يبتلعها الموج فتاريخيا مهما تعمقنا في الأزمة كان الحل قريبا في السفينة شخصيات متعددة متناقضة تشير إلى تعدد التونسي وتنوعه والحق يقال لأن التونسي متنوع ومختلف لكن نقاط الألتقاء بين أفراده كثيرة وأهمها  طيبته وللأسف هي أحقر صفة فيه لأن تلك الصفة الأخلاقية الراقية صارت على مر الهزائم" ضعفا"و"مسكنة" .

يضع بوجاه السفينة ومن فيها في وهم صراع حضاري '' ثقافي '' .

و الحق أن بوجاه حاول أن يبدع في الحاق النخاس بالمؤلف "تاج الدين" و لكنه للأسف على عادة التونسي يحاول دائما ألا يتحمل مسؤولياته في الجد و الهزل و خاصة في مصير هذا الوطن.

أتاج الدين كان أكثر وعيا بالنخاس فحاول أن يهاجر به إلى إيطاليا أم أن بوجاه كان ابن التسعينات بامتياز ففر من مسؤولية تبعات مواقف النخاس.

نم قرير العين يا دكتور في مدارج الجامعة التونسية فلن يكون التونسي نخاسا و لسنا في حاجة إلى تاج الدين كي يتحمل عنا مسؤوليات القول و الفعل و لسنا في حاجة إلى السفينة لأننا لن نرحل من هذا الوطن المضرج بالألم بل يجب أن نرحل الدخلاء و في الأخير شكرا لك حضرة الدكتور لأنك كتبت عندما فضل غيرك النوم تحت الشمسية على شاطىء الحمامات و النخب تتجرع كؤوس الموت في سجن 9 أفريل المركزي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1]  نشر الشركة التونسية للتوزيع

[2]  في كتاب الحركة الفكرية والإسلامية في تونس

[3]  ص 82 و83 من "من أدب الرواية في تونس لأبو زيان السعدي"

[4]  ص 26 من مباحث في رواية المغرب العربي لبوشوشة بوجمعة منشور 1 –سعيدان- سوسة

Publié dans كتب

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article