ليلى و القلعة الهاوية الجزء الثاني

Publié le par hamselhorria.over-blog.com

 

الجلدة رقـــ(06 )ــــم 

 

ليس لي فيك يا ليلى نصيب هكذا حاولت أن أقنع نفسي و أنا أبتدئ يوما جديدا رتيبا في القلعة . أشعلت نار فتيلتي لأدفئ الحليب و ( الفتيلة إناء نصنعه من ورق علب الحليب ثم نضع فيه فتائل قطنية و نضيف للإناء الزيت لتحترق فيه الفتائل ) قالت ليلى و في  أي شيء تطبخون قلت أو لا هو ليس طبخا إنما هو محاولة لتحسين الأكلة  لا أكثر و أما فيما يخص الإناء فإننا نحوّل علب الحليب إلى أواني بما أن العلبة تحتوي على العديد من الطبقات إحداهن من الألمنيوم قالت و هل أكلة السجن إلي هذه الدرجة من السوء لا يمكن أكلها دون تحسين قلت إنها لا لون لها و لا طعم و لا رائحة  قالت هي إذا صالحة للوضوء قلت تقريبا .

 

وقفنا كعادتنا جميعا هنا في القلعة كل صباح للتعداد وهو يسمونه حسابا و الحق أنه يشبه من الكثير من الوجوه اليوم الآخر و في اليوم علينا أن نمر بأربعة فترات من الحساب في الصباح و عند منتصف النهار و في الساعة الثالثة بعد الزوال و عند غلق الأجنحة و الغرف في حدود الساعة الخامسة مساءا .

 

خرجت إلى الفسحة لعلي أضفر ببعض الشمس ينعشني فالشمس هنا عملة نادرة على عكس مدينتنا في الجنوب و أما وقت الفسحة فهو بضع دقائق في الصباح و أقل من ذلك في المساء.

قالت لي ليلى قيل أن السماء ترونها مقسمة إلى مربعات فكيف ذلك قلت إننا نراها من تحت حاجز من الأسلاك كما يرى الأسد العالم الخارجي من قفصه .

 

سرت في الساحة لا أذكر غير ليلى و أمرها الغريب أيمكن أن تتزوج غيري و تهنأ معه . كنت أسير و لعلّي أتكلم دون شعور مني أو أضحك مما جعل بعض الإخوة ينتبهون لي و لعل بعضهم قال و هكذا تستمر مأساة قيس و ليست المرة الأولى التي أدعى فيها قيسا و كم مرّة حاول فيها بعض الأصدقاء في مزحة خفيفة إخراجي من ألمي الممتد كأن يخاطبوني بعربية فصحى : قيسا ماذا دهاك إن ليلى وراء خيام القوم ترقبك منذ الفجر و لم تلحق بها . و لعلي أقول دعوها تنتظر فما عاد لي حاجة بوصالها و ينفجر الأصدقاء ضاحكين .

 

 و تنقضي الفسحة كلمح البصر و أنت تتحسر على بقايا الأشعة التي ستخلفها وراءك و أنت أحوج ما تكون إليها أو هذا الفضاء شبه الممتد الذي ستتركه لتحشر في شبه مظلمة .

 

أخذت قلمي و ورقة علبة السجائر و كتبت قصيدا في هجر ليلى و مزقته بعد أن أتممته فليلى لم تعد لي و لا يحق لي أن أكتب فيها حرفا واحدا .

عدت إلى كتابة اسمها على جدر الأقبية كلما نزلت إلى إحداها .

 

الجلدة رقـــ(07 )ــــم

 

خرجت من الدش كأن الدنيا اختزلت لي قبحها و حسنها في كلمة خيانة. وقفت في ساحة جناح النظافة دون أن أغطي شعري المبلل أو أقفل أزرار سترتي فماذا للهواء أن يفعل أكثر من الغدر.

 

أمسكت بالقضبان أنظر إلى ما وراء الأجنحة المقابلة إلى وراء مدينة القصرين إلى هناك. إلى قفصة إلى القصر هناك تركت حبيبتي على أمل أن أرجع ذات مساء من مساءات الحرّية لأخطفها من بين أهلها و أحملها ورائي على فرسي و أطير بها إلى حيث نبتدئ حياة جديدة كم حلمنا بها و لكنها لم تتحقق و تهت مع أحلامي أرسم لعدوي الجديد صورة بشعة و أنعته بشتى النعوت و لكن ياله من محضوض لأنه قطف زهرة أنا من غرسها أنا من سقاها من أشواق أنا أنا أنا من هذا الأنا المهزوم و أخيرا فتح باب الجناح و سمح لمن أراد من السجناء بالعودة إلى جناح الإقامة و خرجت أجرّ الذكريات .

 

طفت بساحة الجناح حتى كدت أسقط أرضا لأني لم أكن في حالة تسمح لي بالتماسك و اتجهت رأسا إلى سريري لا ملجأ لي غير السرير فلو كانت أمي هنا لسكنت مواجع رأسي بين يدي وروحي هناك و الإخوة منشغلين عنّي بنشر الملابس التي غسلت في جناح النظافة .

 

قام عادل عند رأسي يرقب ضعفي في توتّره المعهود قال ما بك و كأنّ البالونة تنتظر من يشكها بإبرة .

انفجرت أبكي و صدقوني لقد نزلت الدماء التي أمطرتها عيوني إلى الأرض فهرع السجناء إسلاميين و حق عام إلي إغلاق المنافذ التي تؤدّي إلى المداخل التي تفصل الأسرّة عن بعضها و إبعاد أغراضنا  و الصياح يتزايد كلما ارتفع ضغط تيّار الدماء قال أحدهم ماذا هناك أجاب آخر إن فريدا ينزف قال إذا أدركوه قبل أن يجف قال إن له مخزونا احتياطيا من المشاعر لا ينفد .

 

عادل واقف عند رأسي لم يبرح مكانه لماذا لم تخفه دمائي هكذا هو دائما لا ينهزم و لو كان باطنه يحترق قال مابالك قالها وهو أعلم منّي بحالي قلت ليلى قال ما بها قلت تزوجت قال هذا خبر قديم أخبرتك به أمك منذ سنة قلت بلى قال ألم تقل لأمك يومها مبروك قلت بلى قال الآن تبكي وقد مضى على الحادثة سنة و قام عنّي يسب و يشتم و لا أدري يسب من و لا يشتم من .

 

في الليل لم ألجأ إلي النوم لأنني حاولت عامدا أن أذكر كل لحظة قضيتها مع ليلى و قررت حازما أن أغلق ملف ليلى الحقيقة ليستمر فقط ملف ليلى الذكرى .

 

الجلدة رقـــ(08 )ــــم

 

قالت ليلى أرجوك أن تقص علي رحلة 1 ديسمبر 1991 أشحت بوجهي عن ليلى هكذا هي دائما تحاول أن تحرجني و تبعثر صمتي و غبت في تذكري و أنا عازم على الصمت لكن ليلى زاحمت عبراتي فأخرجتني عن صمتي قلت بعد أن إنتقلنا من الغرفة السابعة عشر إلى الغرفة الثالثة بجناح "د المختلط " و قضينا فيها قرابة الشهرين نودي علينا لنحزم أمتعتنا و نستعد للسفر .

 

كان الصباح ككل صباح جديد في السجن خليط من رتابة و شوق حملنا أمتعتنا و اصطففنا محرّم علينا الالتفات يمنة و يسرة إلى طاولة التفتيش لنبعثر عليها " أغراضنا " و يتمزق منها الكثير و يضيع الكثير ثم يدخل كل من ينتهي من تفتيش " أغراضه " إلى غرفة وقحة قاطعتني ليلى يا هذا كيف توصف الغرفة بالوقحة قلت نعم لأنّ فيها يهتك الستر استحت فلم تقل لي كيف و لكني اختصرت الطريق إلى الجراحات قلت في هذه الغرفة يا ليلى نتعرّى فيها تماما كيوم ولدتنا أمهاتنا قالت صارخة هذه وقاحة قلت إذا أنا صادق لما قلت أن الغرفة وقحة يا ليلى ليس التعرّي ما آلمنا قالت باكية و هل بعد هذه الإهانة إهانة قلت نعم إذ أنهم يأمروننا بأن ننحني على شاكلة الركوع في الصلاة ليبحثوا في أدبارنا عن أشياء خفنا من أن تنكشف إذا وضعناها ضمن " أغراضنا " كالمدافع الرشاشة و الدبابات وقذائف الروكات أو كتابات سيّد قطب و حسن البنا .

 

صعدنا السيارات وكان عددنا يفوق المائة بقليل نجرّ أذيال الخيبة و منا أساتذة الجامعة و الضباط و نسبة كبيرة من قيادات الحركة و بعض الغاضبين مثلي لأول مرّة أتجه إلي بنزرت فلم أزرها من قبل أبدا كانت السيارة تقطع الطريق مخفورة بحراسة مشددة كنّا بين مسبّح و تالي و منشد و متأثر .

 

أحسسنا بأن الأمطار تداعب بزخّاتها  قلوبنا لا السيارات و كأنها بصريح العبارة تقول مرحبا بكم في بنزرت .

 

و سخر منها الرعد اليوم بنزرت في مأتم لأنها تستقبل جثامين أبنائها بعد عسر الولادة القيصرية . أغلبنا لا يعرف سجن القلعة الذي تقصده السيّارات هم يسمّونه برج الرومي و لعلّي أنوي الترحم على هذا الرومي الذي ترك لنا قلعة للحضارة قلعة للثقافة قلعة للوحدة الوطنية .

 

بدأت السيّارات تصّاعد الجبل لتترك تحتها بنزرت العروس عن يمين و شمال أبصر من ثقوب السيّارة الغابات الخضراء و من بعيد البحر و تمنيت لو كانت ليلى معي لنقضي شهر العسل في هذه المدينة الساحرة و صمتّ ساعة لأمنح ليلى فرصة لملمة آلامها  قالت كفى ألما قلت ما خفي كان أعظم .  

 

الجلدة رقـــ(09 )ــــم

 

قال عادل أرجوك دع ليلى ترتاح قليلا قلت لا لأننا لم نجد طوال رحلة المحنة من يتركنا في راحة قال و ليلى ما ذنبها قلت " كلّ يدعي وصلا بليلى" قالت ليلى أرجوك أتمم و لا تعبأ لعادل فهو رقيق أكثر من اللازم قال عادل ليست الرقة ما دعاني لذلك يا ليلى و لكنه علمي بأن باقي المأساة ربما يودي بحياتك قالت ما دام هذا الواقع بهذا الألم فهو الكيّ الذي لا بد منه للشفاء قلت و إجتازت العربات البوابة الضخمة و دقت طبول الخوف العربات تتقدم نحو بناية على الطراز الفرنسي القديم ذات السقف المثلثة المغطاة بالقرميد وقفت العربات أمام البناية و لم يطل بنا الإنتظار حتى فتح باب عربتنا و أمرنا بالنزول و المرور بين صفين من قوات نخبة السجون تصافحك الصفعات عن يمين و شمال و يربّط على كتفك عصا غليظا إجتزنا حرارة الإستقبال و السب و الشتم لنصطف أمام البناية .

 

تقدم منّا رجل قصير القامة في زيه الرسمي و على كتفيه نجمتين و في عينيه شيء لا أظن أنه الوطنية كان يأمر و ينهي  لتنزل كل أوامره و نواهيه على وجوهنا حاولت أن أصم سمعي فقد آلمني أن أخي إبراهيم تتقاذفه الأيدي كالكرة و تداعبه الأرجل و هو يصيح يصيح قال عادل ما ذنبه قلت لا أدري بالضبط و لكن أظن أنه نسي أن يقدم التحية الرسمية للسيّد المدير أسرع أسرع إجر أركض و هكذا جمعوا لنا كل أفعال الأمر لنصطف المرة في صفين طويلين أمام بوّابة عملاقة رافعين الأيدي إلى السماء و كل أبناء الوطن المخلصين جثيا على الركب و قف الرجل القصير يتفقد الجموع الوافدة إلى قلعته أو مملكته فهو الحاكم الأعلى هنا أوقف أحدنا فحمدنا الله لأن كبيرهم ثاب إلى رشده وعرف للقوم منزلتهم فإذا به يلطمه صارخا في وجهه لا أعلم أن لدينا جمعيات غير مرخص فيها و لا مرخص فيها بل لك قضية أخرى قال صدقني يا سيّدي ذاك هو عنوان قضيتي فإذا به يكرر اللطم و الأخ في حيرة من أمره , أخيرا جاء الفرج و كف عن ضربه قائلا أنت قضيتك سارق دجاج قال لا قطعا فضربه فنفى فضربه و ضربه حتى كاد ينهار أو إنهار نعم نعم نعم خرجت بموسيقي الأحزان و الآلام أنا سارق الدجاج .

ثم أمر زبانيته بالطواف بيننا ليسألوننا عن عناوين قضايانا إن كانت لنا عناوين غير سارق الدجاج فتعدد اللطم و الركل و كانت الأمطار قد زادت الوضع تعقيدا و رئيس الأوركسترا يرفع أصابعه و ينزلها و نحن نردد في لحن متناسق كئيب قق قق ق أغمي على ليلى فأوقفت تراتيلي قال عادل ما أقساك على ليلى قلت بل أنا رحيم بها فلأجلها صار الرجال دجاج .

 

الجلدة رقـــ(10 )ــــم

 

يا ليلى لعلنا كرهناك و نحن نصيح ق ق ق أو ربمّا أحببناك لأنك أذقتنا طعم الإستماتة في سبيل المبدأ قالت ليلى إن السماء أمطرت يومها غضبا كما أمطرت عيناي الآن قلت يا ليلى لم أستطع أن أنسى إهانة أهل العلم يوم الحشر ذاك يومها أحسست بأن بكارتك قد إفتظها قاطع طريق قالت آه قلت آه يا ليلى آه .

 

أوقفنا أو ربما أوقفتنا العصى لندخل من ذلك الباب العظيم نجري حاملين ما تبقى من" أغراضنا " التي بعثروها فإذا نحن داخل حصن عظيم و كالعادة كنا جثيا على الركب و أمامنا الرجل القصير و الذي علمنا من بعد أن إسمه محمد الزغلامي .

 

أوقف أحد الإخوة فقلنا في قلوبنا طبعا الحمد لله لقد عرفوا لليلى حقها فإذا به يسأله ماذا تشتغل في الدنيا إذ نحن الآن لسنا في الدنيا بل في القلعة فأجابه دكتور قال طبيب قال نعم صفعه صفعة حتى أسقطه أرضا ثم زعق قائلا كل "الدكاترة " خارج الصف فإرتعدنا و إخوتنا الدكاترة يتقدمون نحو حتفهم.

 

و تقدموا منه واحدا واحدا لينالوا نصيبهم من الصفعات فهذا كمال بن رمضان أستاذ الاقتصاد يعانق الأرض فلا أرحم منها في هذا الموقف و ذاك عبد المجيد الزّار قالت ليلى ألم تنتهي ساعة الحساب قلت لقد بدأت تنتهي ونحن ننهار تماما و العقيد عبد الفتّاح القلال يعانق الألم و الأرض في آن واحد قالت ليلى غاضبة كيف سولت نفس ذالك الحقيرأن ينال ممن هو أعلى منه رتبة قال العقيد في  افتخار و أنفة أنا عقيد في الجيش الوطني فإذا به يسقطه أرضا على نشاز أنت خائن للوطن قال عادل أي أرض هذه التي يحاكم فيها الرجل من طرف جلاده . قلت في نفسي عليك يا ليلى السلام و أنا أحمل أغراضي لأتجه إلى الغرفة رقم عشرة فإذا بأحد الحراس يصفعني صفعة كادت تفقدني حبك يا ليلى قالت ليلى ماذا اقترفت يداك حتى تهان قلت لقد صفعني ثم سبني لأنني أهملت حلق لحيتي .

 

و أنا أدخل الغرفة العاشرة لا أدري أكنت منهارا أم صامدا و لكن الشيء الذي مازلت أذكره أنني كنت حاقدا على كل ما عدا إخوتي و ليلى قال عادل كيف كانت وضعيتكم في الغرفة العاشرة ضحكت ضحكة غير معتادة فقال عادل إذا أرجوك لا تحكي لنا عن هذه الغرفة فإن ليلى تريد أن ترتاح قليلا إذ يبدو على وجهها الإرهاق قالت ليلى يبدو أن الغرفة العاشرة سميت غرفة من باب تسمية الأشياء بأضدادها  قلت عفوا ليلى لن أستطيع أن أكمل .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآهة رقـــ(03 )ــــم

 

" القلعة الهاوية "

 

يا قلعة مشيدة

على صخور الجماجم وحمم البراكين

حييتي من قلعة

يجري في سواقيها سم الثعابين

كما جرى بالأمس

قبل تأبيني دمي في شراييني

أنا الساكن

في قبوك يمتصنّي الأرق

و أنت الساكنة

قسرا في الشفق

قالوا قديما

إذا التقى ساكنان يحذف ما سبق

بالله احذفيني

يا من تعاليت على التاريخ

و فيه ذكري

و بعض قصائدي

و رسم  لكوخي و محبرتي

أسقطيني من التاريخ

كما أسقطت من حسابك أن البراكين

ستقذف  يوما حمما

فتحرقني أو تحييني

و أن الجماجم ستبعث فيها الحياة

فتفضح جلستي في قبوك

أو تخشى أن تناديني

يا قلعة مشيدة

على صخور الجماجم وحمم البراكين

دليني على من أحاطك بالياسمين

بالله دلّيني

فقد سقاها حبر قصائدي

و بعد أنا على الثرى

لم تواريني

و أذكر أني أنزف آخر الليل قصائد

أو قيحا من هواجسي

أو حلما لطفلي

و بعض الياسمين المحترق

و ما تحيط القلاع

لأنها مثل قصائدي لا تعاديني

فكيف لها أن تحز رقاب الزنابق

بالسكاكين

أنا يا قلعة ما ألفتك

إلا ليشهد التاريخ أنك ما ألفتني

وجلبت قبل سلاسل قبوك

دن خمر وطن تين

و جلبت عروسي

مثقلة بالذهب

فأيقنت أنك لا تغريني

و أردت قتلي

ففتحت صدري

و قلت فجريني

لذا لا أغادر قبوك

كي لا تغار الشمس

من قصائدا

كتبت في الأقبيه

 ببنان إصبعي على الطين

أنا يا قلعة

مذ ولجت بابك

أيقنت ألاّ مفر

من لمّ شتاتي و السفر

لكن قصائدي

تأبى أن تهاجر في السحر

فامنحيها

أن تهاجر تحت قيض الهاجره

و إن شئت إن نزل المطر

فقصائد الأحرار لا تفر

امنحيها و امنحي لي

امنحيها ففيها حلم لطفلي

و مقبض لسكيني

و امنحي لي

فإني من الطين عفن

عفوا

ففيه روح تحييني

إذا جاء يا قلعة

لأبراجك زلزالها

فتعذري وتشدّقي

فإنك لا محالة مخرجه

من قبوك

قصائدي و مرثيتي و أمثالها

و إنك لا محالة

هاوية في الهاوية

إذا رتل الشعب سورة الزلزلة مردفة بالقارعه

فتحللي وتبخري

فحساب دهر قد أتى في ثانيه

 

الجلدة  رقـ(11)ــم  

 

الغرفة العاشرة تشعرك حقا بأنك تنام في العراء دخلت الغرفة برجلي اليسرى سرت فيها بضعة أمتار ثم وضعت حقيبتي فوق أحد الأسرة لأجول ببصري لا في الحاضرين فهم رغم أني لا أعرف أغلبهم إلا أنهم أصدق أبناء هذا الوطن و الدليل على صدقهم أنهم هنا و ماسواهم هناك .

 

السقف مبني على الشاكلة الفرنسية تحسبا من نزول الثلوج و لكن أين هي الثلوج و نحن في إفريقيا . بدا  لي جزء من السماء من بين القرميد إذ نحن في مسكن تتوفر فيه شروط الصحة فهذا السقف يفتح على السماء في ديسمبر. أحسست بلسعات البرد تدعوني إلي توقي الحذر مخافة المرض أو الإسراع بغلق النوافذ أسرعت في إتجاه النوافذ لأغلقها فإذا بها لا تنغلق لأنها بدون بلّور و لا حتى إطار خشبي و أيقنت أخيرا دون ريب ولا شك بأننا في سجن يتبع وزارة البيئة لا الداخلية .

 

لا بد إذا أن أحتمي بالأغراض  فتحت حقيبتي فإذا بي أضحك أو ربما أدخل في موجة من الحيرة فالحقيبة حقيبتي و كل ما فيها ليس لي و تذكرت أنهم أمرونا أن نخرج جميع محتويات الحقائب معا ثم أمرونا بجمع الأغراض دون إنتقاء و وجدت بعد عناء بعض أغراضي عند أحد الإخوة ملطخة بالطين و البعض الآخر عند أخ آخر . لم أستطع أن أخفي سروري بوجودي بين هذه الطائفة الطيبة من أبناء الوطن فإنتقلت من أخ إلى آخر للتعرف  أو للاستفسار أو النصح و جاء العشاء فإذا بحبات من الحمص تسبح في بحر من المرق و لابد لي  من الأكل بعد هذه الرحلة من العناء .

 

كم أحسست بحاجة إلى البكاء أو إلى أي شيء يخفف عنّي و لو كان النوم و لكن كيف ستنام في هذه الغرفة المفتوحة جاء الليل بكلكله فلا مناص من الإخلاد إلى النوم إخترت مع أخي فتحي سريرا وضعنا فيه نصف "مرتبة " وجدناها مرميّة في أحد أرجاء الغرفة و لم نجد أغطية و لم تكن معنا أغطية فإكتفينا بالصبر فإذا ببرد الليل كاد يفوق صبرنا و تحركت الريح فإذا بها تعبث بالقرميد المرتب بعضه فوق بعض فإذا السماء غاضبة قلت لفتحي أظن أن . قال نعم نعم و بدون ظن إن السماء تمطر فوقنا قلت مالحل قال لنصبر وحاولنا الصبر و أخيرا قررنا أن نبعد السرير عن الفتحة التي في السقف فإذا بأغلب الإخوة يتجولون بأسرتهم داخل الغرفة كلما عنّ للرّيح أن تعبث بالقرميد و لأول مرّة في حياتي أحسست باستحالة ميلاد الفجر إذا كان الليل في غاية القساوة قالت ليلى ولكنه حتما سيولد قلت أيولد ليجدنا موتى قالت لا بل أحياء قلت أحياء كالأموات قالت ربما .

 

الجلدة رقـ(12)ــم

 

قمنا نتحسس الفجر لأداء الفرض فإذا بالنور في عداد الأموات و إذا ببلاط الغرفة غارق في ماء المطر و الحنفية لا ماء فيها و القلوب تلهج بالذكر و الرضا .

 

سرت في ذلك الظلام الذي حاولنا كسره بضوء بضع فتيلات إلى بيت الخلاء و قمنا بجمع ما عندنا من ماء فإذا بيت الخلاء أقذر من أن تـوصف  ولكن لا بد لنا من دخولها .

 

وقفت بعد الصلاة أمام أحد النوافذ أرقب الغرفة المقابلة الغرفة الحادية عشر يا ترى من فيها من الإخوة و الأصدقاء و نظرت إلى الليل في عليائه فإذا به يندثر أمام سفور الصباح الجديد ولم أشعر أن فتحي كان بجانبي قال لم لا تبتعد عن النافذة إني أخاف عليك من نزلة برد قلت من نجا منها البارحة فلن يهابها بعدها أبدا قال إن الوضعية هنا قاسية جدّا وربما تطول قلت نعم و إن طالت لا بد لها أن تنتهي قال لنفطر قلت نعم .

 

حاولنا بعد التعداد الصباحي أن نرتب الغرفة وأن نخرج منها المياه .

 

خرجنا إلي الفسحة اليومية . يا الله لأول مرة منذ أكثر من سبعة أشهر أرى الخضرة بدون حواجز فهذه غابة جبلية تظهر جلية وراء أسوار القلعة.

 

في القيلولة قسمنا أنفسنا إلى مجموعات ذات خمس و ست أفراد جمعنا كل ما عندنا من زاد و قسمناه فيما بيننا و فرحت من هذه البادرة الجديدة و تجمعنا على الطعام و نحن نتندر ممّا وقع بنا في اليوم الماضي أو ربما نحاول التناسي جدّدنا التعارف بيننا و عجبت من هذه الأسباب التي جمعت بين هؤلاء الأفراد فأنا من قفصة و هذا من منزل بورقيبة و ذاك من صفاقس و الآخر من منوبة وشّدني إليه بنظراته التي فيها شيء لا أدري ما هو .

 

 لقد كانت عيناه تشعان نورا و رغم بدانته إلا أنه يبدو أصغر من سنه بكثير قالت ليلى هو نبيل قلت نعم نبيل الجويني قالت لقد حدثتني عنه مرة قلت أظن ذلك و رغم ما حدثتك به عنه إلا أن ما أخفيته كان أعظم قالت ليلى يبدو أنك تبالغ كثيرا في أوصافك قلت يا ليلى لقد دخلت السجن و عمري يفوق العشرين سنة ببضعة أشهر قالت يعني أنك كبرت هناك قلت نعم أرأيت الآن بأنني لا أبالغ فيما أنقل و لكني كنت في كل ما أرى متلقيا جديدا و متعلما مجدّا قالت ليلى لو نفارق الغرفة العاشرة لنسبح مع نبيل و طرائفه و لو قليلا قلت يا ليلى إن نبيل جزء من أسراري و لكن ليس بيني و بينك أسرار إن نبيل في علاقته بي عجيب غريب قالت ليلى هكذا نسمع عن الأطفال في وطننا يفارقون الطفولة فجأة إلى الرجولة يا للعجب .

 

الجلدة رقــ(13)ــم  

 

في ليلة من ليالي الغرفة العاشرة و كنت فوق سريري أنظم عقد سبحة صنعتها من حبات الزيتون قبالتي الشيخ لطفي السنوسي و هو غارق في تسابيحه يضفي على الغرفة جوّا من الروحانية السمحة و تنبعث منه بسمات تضيء الغرفة ذات الإضاءة شبه الميتة و فوق سريرين متلاصقين حلقة من حلقات نجيب مراد  يتناولون فيها دروسا في اللغة الإيطالية و في  آخر الغرفة درس للشيخ مصطفى بن حليمة في أصول الشريعة و عن يميني نبيل يقرأ في كتاب ما .

 

كان قد مضى على و جودي بالغرفة بضعة أيام و لم تزد علاقتنا على تبادل المجاملات حتى دخلنا ساعتها في نقاش حول شخصية الكاتب الإمام إبن تيمية و غصنا في النقاش حتى تركت مكاني و تركت نظم عقد المسبحة و ترك سريره لنجلس على الأرض و كنا قد خرجنا في حديثنا من الكتاب و صاحبه إلي الواقع و الغرفة و واقع البلاد العام و العالم الإسلامي ثم غصنا في تفاصيل عائلتينا و أحلامنا و أمانينا و بدا لي توافق كبير بين أحلامنا و أمانينا و لعلّي الآن فقط أتساءل كيف انسقت مع ذلك الشخص الذي لا تربطني به أية صلة مسبقة حتى قصصت عليه بعضا من خصوصيات العائلة. لكم أعجبت بهذا الفتى الصغير الذي له تجارب يصعب خوضها على أعتى الرجال و لكم دهشت لمّا علمت أنه قد دخل السجن قبل الآن أي في منحة 87 و كان عمره لما التقيته يناهز السابعة عشرة قاطعتني ليلى أنت كذلك سجنت في سنة 87 و كان عمرك آن ذاك يناهز السابعة عشرة. أكثر شيء يشدك إلى نبيل خفة روحه و صدقه و وطنيته المفرطة و هو كذلك خدوم إلى أقصى الحدود.

 

تجاوزنا منتصف الليل بأكثر من ساعة و لا بد لنا من الإيواء إلى الفرش توضأنا ثم صلينا ركعات تهجد حرصت بعد ذلك أن نختم بها سهرات السمر و ليلتها نمت نوما عميقا فقدته منذ فارقت حضن أمي .

 

و تعمقت صلتي بنبيل إلي درجة صرنا لا يفصل بيننا إلا الصلاة أو بيت الخلاء فحتى النوم لا يفصل بيننا لأننا تجاورنا في الأسرة و في النوم قطعا كنا سنلتقي طائرين أو سابحين . كان نبيل كلما إلتفت يمنة أو يسرة في الغرفة و لم يجدني خرج مسرعا إلى الفسحة ليشدني من يدي و نسير مع بعض ننسج للمستقبل أحلامنا نشترك في غسيل الملابس نسمر معا نأكل معا نحلم معا قال عادل إن نبيل يستحق أن نصنع له تمثالا تخليدا لذكراه قلت تمثالا لا لأنه ما يزال حيّا بالقلب .

 

 

الجلدةرقـ(14)ـم

 

 و نحن نسبح  بالأحلام  في ساحة الجناح إذ جاءنا ناظر الغرفة على عجلة من أمره يصيح ويصرخ احلقوا لحاكم  إن المدير سيزوركم اليوم نظفوا الغرفة أزيلوا الأوساخ و دار بيننا حديث خافت حول محتوى زيارة هذا الرجل الغير مرغوب فيه و أتى الرجل القصير في حاشيته المشبوهة من كبار السجّانين و أرذل السجناء فهذا شهرته " السردوك" ناظر زنزانات العقوبة و هذا عبد الجليل " كبران سنترة " و ذاك و ذاك ألقى فينا خطبة عصماء حول الإنضباط و إحترام المسؤولين و الواجبات اليومية و أعلمنا بأنه سيمنحنا أغطية و فرحنا للأغطية دون سواها .

 

 كان نبيل يقرأ لي جميع رسائله التي ترسلها أمه و أخته و كان يخبر أسرته بفحوى صداقتنا في الزيارة و في الرسائل حتى تمنى أهله لو يتعرفوا على و لكن قطعا هذا مستحيل و لم أكن أسمح لنبيل بقراءة رسائلي قالت ليلى هذه أنانية مفرطة قلت لا ليست أنانية و لكن بالأصل لم تكن لي رسائل إذ أن أهلي لا يقدرون قيمة هذه الوسيلة في الاتصال فرغم أن الرسائل تمرّ عبر الرقابة أي أنك محاسب على كل كلمة فيها ذاهبة أم قادمة و مع ذلك ففيها ما ليس في الزيارة من معاني إذ أنك تعيد تلك المعاني قراءة و تفحصا و تدبرا أكثر من مرة و في أكثر من وقت و وضع .

 

 وجاءنا الرجل القصير فجأة ليطلب من نصف الغرفة جمع أغراضها لتنتقل إلى الغرفة الثانية عشرة و فرحنا فرحا شديدا و كنت بعد عشرة دقائق تقريبا مع نبيل جاهزين و لكن ما راعنا أن " كبران " الغرفة الثانية عشرة يرفض إستقبالي مع نبيل في الغرفة و يطلب من العون إرجاعنا و رغم إلحاحنا و إصرارنا أرجعونا و لكن إلى الغرفة الحادية عشرة . في القيلولة قررت و دون أن  أخبر نبيل بعد أن أعلمني أحد الإخوة في الغرفة الحادية عشرة بأن "كبرانهم" عدو لدود قررت أن أضع له مقلبا "كمّوسة " لعزله من منصبه فوضعت في حقيبتي جريدة و الجرائد بمختلف أنواعها ممنوع شراؤها و قراءتها فنحن في وضع خاص و لا يجوز لنا الاتصال بالعالم الخارجي لا جرائد لا تلفاز لا مذياع و ممنوع تداول الأخبار السياسية مع الأهل يوم الزيارة ثم طلبت من أحد سجناء الحق العام و شهرته " طوار " أن يذهب إلى أحد المسؤولين ليشي بي "يصبّ " كنت أتجول في الفسحة فإذا بأحد المسؤولين و يدعى حبيب عليوة يصيح مغضبا أين القفصي قلت أنا هنا قادني إلي الغرفة و نبيل فاغرفاه يسير بجانبي يحاول أن يستفهم قالت ليلى لقد بدأت المتاعب قلت و متى إنقطعت حتى تبتدئ .

 

الجلدة رقـ(15)ـم

 

قال عادل و جدوا الجريدة داخل أغراضك  ثم قادوك تسبقهم نخوة الانتصار فلهم أعين " صبابة " ترى حتى في الظلام ثم سألوك عن مصدر الجريدة فأصررت أن " كبران " الغرفة الحادية عشرة هو الذي جلبها قلت نعم يا أخي عادل كأنك كنت معي لكنهم لم يصدقوا بأن " الكبران "  هو الذي جلبها و أصروا على أن غيره هو الذي جلبها , أصررت فقادني إلى غرفة التعذيب "السيلون" و لأول مرة أدخل السيلون و لم أدري أني سأدخله بعد ذلك ألف مرة . نزعت ثيابي و وقفت أمام جلادي عاريا كيوم ولدتني أمي أمرني بالجلوس أرضا ثم رفع ساقي إلي فوق و أدخل فيها حبلا و عصا " فلقه " ثم بدأ في طي الحبل و العصا إلى أن صارت ساقي رهينة الحبل و العصا . و  ارتفعت العصا إلى فوق ثم هوت علي و كررت الصعود و النزول و كررت الصياح و الاستغاثة ثم وضع العصا جانبا لقد ثاب إلى رشده و عرف لليلى حقها في الحرية و التعبير فإذا به يصب على ساقي الماء ثم يعاود رحلة القهر و الألم لأسبح في بحر من الأوجاع انفجرت ليلى باكية قال عادل أتمم و لو ماتت ليلى ألما فما عدنا نهاب سماع الألم بعدما تذوقناه .

 

 ثم رميت في زنزانة لجمع الآلام المتناثرة المبعثرة و أنا أبحث في ظلمائها عن غطاء فقد آلمني البرد أكثر من بقايا وجع العصا و نظرت إلى سو أتي طأطأت ليلى رأسها حياء لم أبالي قلت نظرت إلي سوأتي فعجبت من هذا الزمان الذي ما يزال فيه الإنسان يستعبد أخاه الإنسان و تصورت نفسي أدور في شوارع العاصمة المزدحمة و أنا عاري تماما فما موقف أبناء هذا الوطن مني و صحت تبا لكم يا سفلة يا رعاع أليست القلعة جزءا من الوطن الست جزءا من هذا الوطن أليس أبي من حرره أليست أمي من نسجت له أغطيته و خاطت ثوبه و أخيرا قررت أن أهدأ و أن أجلس و لو على أليتي جلست على الأرض حاولت جاهدا أن أصبر فلم أستطع و ضعت يدي تحتي حتما تعبت أسندت ظهري للجدار اتكأت على جنب انفجرت باكيا من شدة القهر . و أخيرا فتح الباب فقلت لقد جاؤوا ليعتذروا مني لعل ليلى خاطبتهم فاستحوا فإذا بي أساق مخفورا إلى مكتب الرجل القصير ليصب عليّ جامّ أدبه و يأمر نائبه الملازم فؤاد والي بأن يجري معي تحقيقا و كنت بعد ساعة من خروجي من مكتب الرجل القصير محمولا فوق الأعناق لا أدري كيف عوملت في مكتب نائب المدير قالت ليلى إن التاريخ لا يرحم قلت كذلك الجغرافيا لا ترحم الذي لا يرحم يا ليلى هو الإنسان إذا فقد ما به يكون إنسانا .

 

 

 

الآهلة رقــ(4)ـم

 

"  سرّ الأقدار "

 

آذيتني

و خلت بأنني سأنهار

فلست النيل

كي تغور منابعه

و لا ليل

فيدهمني النهار

ولست الصدق

كي يغتالني الكذب

و لا السرّ

فيفضحني جهار

و لست الحب

أعصف بالقلوب لتحي

و تعصف بوجدي القلوب

إن كشفت ستار

و لست القدس جرح

في ضمائر الأحياء

و جريرة

بها تسجن الأحرار

و لست الشاعر

لحن قصيدته الأصيل

و تغنت بها الأطيار

و شعري رحيق

و اسأل فراشا

لم يطوف بالأزهار

أنا يا من أنا

أنا سرّ

قد احتفظت به لنفسها الأقدار

فضاعف إذايتي

فحتّام

تحمل سرّها الأقدار  

 

 

 

Publié dans كتب

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article